فصل: تفسير الآيات رقم (112- 118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 35‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى‏}‏ يعني‏:‏ أعني عليهم بالعذاب‏.‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏، يعني‏:‏ بتحقيق قولي في العذاب، لأنه أنذر قومه بالعذاب، فكذبوه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا‏}‏، أي اعمل السفينة بأَعيننا، يعني‏:‏ بمنظر منا وبعلمنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏، يعني‏:‏ بوحينا إليك وأمرنا‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏، يعني‏:‏ عذابنا، ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏؛ يعني‏:‏ بنبع الماء من أسفل التنور، ‏{‏فاسلك فِيهَا‏}‏؛ يعني‏:‏ فأدخل في السفينة ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏، يعني‏:‏ من كل حيوان صنفين ولونين ذكراً وأنثى، ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏؛ يعني‏:‏ وأدخل فيها أهلك، ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ إلا من وجب عليه العذاب، وهو ابنه كنعان‏.‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ ولا تراجعني بالدعاء في الذين كفرُوا وهو ابنه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ بالطوفان‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ بتنوين اللام، وقرأ الباقون بغير تنوين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك‏}‏، يعني‏:‏ ركِبت في السفينة، ‏{‏فَقُلِ الحمد للَّهِ‏}‏، يعني‏:‏ الشكر لله ‏{‏الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين‏}‏ المشركين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى‏}‏، يعني‏:‏ إذا نزلت من السفينة إلى البر، فقل‏:‏ رب أنزلني ‏{‏مُنزَلاً مُّبَارَكاً‏}‏‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏مُنزَلاً‏}‏ بنصب الميم وكسر الزاي، يعني‏:‏ موضع النزول؛ وقرأ الباقون ‏{‏مُنزَلاً‏}‏ بضم الميم ونصب الزاي، وهو اختيار أبي عبيدة، وهو المصدر من أنزل ينزل، فصار بمعنى أنزلني إنزالاً مباركاً‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين‏}‏ من غيرك؛ وقد قرأ في الشواذ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين‏}‏ بنصب الزاي، يعني‏:‏ أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام‏:‏ قل هذا القول، حتى تكون خير المنزلين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏، يعني‏:‏ في إهلاك قوم نوح‏.‏ ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏، يعني‏:‏ لعبراً لمن بعدهم‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏، يعني‏:‏ وقد كنا لمختبرين بالغرق؛ ويقال‏:‏ بالطاعة والمعصية‏.‏ وإن بمعنى قد، كقوله ‏{‏قَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏، يعني‏:‏ وقد كان مكرهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏، أي خلقنا من بعدهم ‏{‏قَرْنٍ مكناهم‏}‏ وهم قوم هود، ‏{‏فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ نبيّهم هوداً عليه السلام ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏، يعني‏:‏ قال لهم هود‏:‏ احمدوا الله وأطيعوه، ‏{‏مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏، يعني‏:‏ اتقوه‏.‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاخرة‏}‏، يعني‏:‏ بالبعث بعد الموت، ‏{‏وأترفناهم‏}‏؛ يعني‏:‏ أنعمنا عليهم، ويقال‏:‏ وسعنا عليهم حتى أترفوا‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ الذين‏}‏، يعني قالوا‏:‏ ما هذا ‏{‏إِلاَّ بَشَرٌ‏}‏، يعني‏:‏ آدمياً ‏{‏مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ‏}‏، يعني‏:‏ كما تأكلون منه، ‏{‏وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ كما تشربون‏.‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً‏}‏، يعني‏:‏ آدمياً ‏{‏مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏، أي لمغبونون ‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً‏}‏، أي صرتم تراباً ‏{‏وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏، يعني‏:‏ محيون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 48‏]‏

‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏}‏ قرأ أبو جعفر المدني ‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏}‏ كلاهما بكسر التاء‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ قراءتها بالنصب، لأنه أظهر اللغتين وأفشاهما، وقال بعضهم‏:‏ قد قُرئ هذا الحرف بسبع قراءات بالكسر، والنصب، والرفع، والتنوين، وغير التنوين، والسكون‏.‏ وهذه الكلمة يعبر بها عن البعد، يعني‏:‏ بعيداً بعيداً، ومعناه أنهم قالوا‏:‏ هذا لا يكون أبداً، يعني‏:‏ البعث‏.‏ ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بَعِيداً بَعيداً لِمَا تُوْعَدُونَ‏.‏

‏{‏إِنْ هِىَ‏}‏، يعني‏:‏ ما هي ‏{‏إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏، يعني‏:‏ نحيا ونموت على وجه التقديم؛ ويقال‏:‏ معناه يموت الآباء وتعيش الأبناء‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏، يعني‏:‏ لا نبعث بعد الموت‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏، يعني‏:‏ ما هو ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏، أي بمصدقين، فلما كذبوه دعا عليهم، ‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى‏}‏، يعني‏:‏ قال هود‏:‏ أعني عليهم بالعذاب ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ‏}‏ الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّا قَلِيلٍ‏}‏، يعني‏:‏ عن قريب‏.‏ وما صلة، كقوله ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ‏{‏لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏، يعني‏:‏ ليصيرن نادمين، فأخبر الله تعالى عن معاملة الذين كانوا من قبل مع أنبيائهم وسوء جزائهم وأذاهم لأنبيائهم، ليصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه‏.‏

ثم أخبر عن عاقبة أمرهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق‏}‏؛ يعني‏:‏ العذاب وهو الريح العقيم؛ ويقال‏:‏ وهي صيحة جبريل عليه السلام ‏{‏فجعلناهم غُثَاء‏}‏، يعني‏:‏ يابساً؛ ويقال‏:‏ هلكى كالغثاء، وهو جمع غثاء وهو ما على السيل من الزبد، لأنه يذهب ويتفرق؛ وقال الزجاج‏:‏ الغثاء البالي من ورق الشجر، أي جعلناه يبساً كيابس الغثاء؛ ويقال‏:‏ الغثاء النبات اليابس كقوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَبُعْداً‏}‏، يعني‏:‏ سحقاً ونكساً ‏{‏لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ بعداً من رحمة الله تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً‏}‏، يعني‏:‏ خلقنا من بعدهم قروناً ‏{‏ءاخَرِينَ *** مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏؛ وفي الآية مضمر ومعناه‏:‏ فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا ما تسبق من أمة، يعني‏:‏ ما يتقدم ولا تموت قبل أجلها طرفة عين، ‏{‏وَمَا يَسْتَخِرُونَ‏}‏ بعد أجلهم طرفة عين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏، يعني‏:‏ بعضها على إثر بعض قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏ بالتنوين، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء بغير تنوين، وقرأ الباقون بنصب الراء وبغير تنوين وهو التواتر‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كلّ ما في القرآن «تَتْرا وَمِدْرَاراً وَأَبَابِيلَ وَمُرْدِفِينَ»، يعني‏:‏ بعضها على إثر بعض‏.‏

قال القتبي‏:‏ أصل تترى وتراً، فقلبت الواو تاءً كما قلبوها في التقوى والتخمة وأصلها وتراً، والتخمة وأصلها‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا جَاءهُمْ *** أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً‏}‏ بالهلاك الأول فالأول، ‏{‏فجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏؛ أي أخباراً وعبراً لمن بعدهم؛ ويقال‏:‏ فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم، يتحدثون بأمرهم وشأنهم؛ وقال الكلبي‏:‏ ولو بقي واحد منهم لم يكونوا أحاديث‏.‏ ‏{‏فَبُعْداً‏}‏ لِلْهَالِكِ؛ ويقال‏:‏ فسحقاً ‏{‏لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يصدقون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا‏}‏ التسع، ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏؛ يعني‏:‏ بحجة بينة ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏، أي قومه‏:‏ ‏{‏عَادٌ فاستكبروا‏}‏؛ يعني‏:‏ تعظموا عن الإيمان والطاعة، ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً عالين‏}‏؛ يعني‏:‏ متكبرين‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ‏}‏، يعني‏:‏ أنُصدق ‏{‏لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ خلقين آدميين‏.‏ ‏{‏وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون‏}‏، أي مستهزئين ذليلين‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا‏}‏، يعني‏:‏ موسى وهارون، ‏{‏فَكَانُواْ مِنَ المهلكين‏}‏؛ يعني‏:‏ صاروا مغرقين في البحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏، يعني‏:‏ التوراة، ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ لكي يهتدوا، يعني‏:‏ بني إسرائيل‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً‏}‏، يعني‏:‏ عبرة وعلامة لبني إسرائيل، ولم يقل آيتين؛ وقد ذكرناه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ‏}‏، يعني‏:‏ أنزلناهما إلى ربوة، وذلك أنها لما ولدت عيسى عليه السلام هم قومها أن يرجموها، فخرجت من بيت المقدس إلى أرض دمشق، والربوة المكان المرتفع‏.‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏، يعني‏:‏ أرضاً مستوية ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ الماء الجاري الطاهر، وهو مفعول من العين، وأصله معيون، كما يقال‏:‏ ثوب مخيط؛ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ الربوة هي دمشق؛ ويقال‏:‏ هي بيت المقدس، لأنها أقرب إلى السموات من سائر الأرض؛ ويقال‏:‏ إنها الرملة وفلسطين‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم ‏{‏رَبْوَةٍ‏}‏ بنصب الراء، وقرأ الباقون بالضم، ومعناهما واحد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل‏}‏، يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، كما يجيء في مخاطبتهم‏.‏ ‏{‏كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏، يعني‏:‏ من الحلالات‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد قال‏:‏ حدثنا ابن صاعد قال‏:‏ حدثنا أحمد بن منصور قال‏:‏ حدثنا الفضيل بن دكين قال‏:‏ حدثنا الفضل بن مرزوق قال‏:‏ أخبرني عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً، وَإنَّ الله تَعَالَى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ثمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ، يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ‏:‏ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك» وقال الزجاج‏:‏ خوطب بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل‏:‏ ‏{‏لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل‏}‏ وتضمن هذا الخطاب أن الرسل عليهم السلام جميعاً كذا أمروا‏.‏ قال‏:‏ ويروى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وكان رزق النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة وأطيب الطيبات الغنائم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واعملوا صالحا‏}‏؛ يعني‏:‏ خالصاً‏.‏ ‏{‏إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ قبل أن تعملوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏، يعني‏:‏ دينكم الذي أنتم عليه، يعني‏:‏ ملة الإسلام دين واحد، عليه كانت الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون‏.‏

‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون‏}‏، يعني‏:‏ أنا شرعته لكم فأطيعون‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ بنصب الألف وتشديد النون، وقرأ ابن عامر بنصب الألف وسكون النون، وقرأ الباقون بكسر الألف والتشديد على معنى الابتداء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏، يقول‏:‏ فرقوا دينهم وتفرقوا في دينهم، ومعناه‏:‏ أن دين الله تعالى واحد، فجعلوه أدياناً مختلفة زبراً‏.‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏زُبُراً‏}‏ بنصب الباء، أي قطعاً وفرقاً، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ‏{‏زُبُراً‏}‏‏.‏ بضم الباء، أي كتباً، معناه‏:‏ جعلوا دينهم كتباً مختلفة؛ ويقال‏:‏ فتقطعوا كتاب الله وحرفوه وغيروه ‏{‏زُبُراً‏}‏‏.‏ ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بما هم عليه من الدين معجبون، راضون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 61‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ اتركهم في جهالتهم ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏، يعني‏:‏ إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب‏.‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أيظنون وهم أهل الفرق، ‏{‏أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أن الذي نزيدهم به ‏{‏مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات‏}‏، يعني‏:‏ هو خير لهم في الآخرة‏؟‏ قرأ بعضهم ‏{‏***يُسَارَعُ‏}‏ بالياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وقراءة العامة ‏{‏وَبَنِينَ نُسَارِعُ‏}‏ بالنون وكسر الراء، يعني‏:‏ يظنون أنا نسارع لهم في الخيرات، بزيادة المال والولد؛ بل هو استدراج لهم‏.‏

وروي في الخبر، أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا، وهو أبعد له مني ويجزع عبدي المؤمن أن أقبض منه الدنيا، وهو أقرب له مني‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏، وقد تم الكلام، يعني‏:‏ أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات‏}‏ ‏{‏بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ أن ذلك فتنة لهم؛ ويقال‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ وقد تم الكلام، يعني‏:‏ أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا‏؟‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات‏}‏ يعني‏:‏ نبادرهم في الطاعات وهو خير لهم، أي في الآخرة ‏{‏بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ أن زيادة المال والولد أن ذلك مكر بهم وشر لهم في الآخرة‏.‏

ثم ذكر المؤمنين، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ‏}‏، يعني‏:‏ خائفين من عذابه؛ ويقال‏:‏ هذا عطف على قوله‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون * والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون * والذين هُم مّنْ *** خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن يصدقون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يشركون معه غيره، ولكنهم يوحدون ربهم؛ ويقال‏:‏ بربهم لا يشركون، وهو أن يقول‏:‏ لولا فلان ما وجدت هذا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏، يعني‏:‏ يعطون ما أعطوا من الصدقة والخير‏.‏ ‏{‏وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏، يعني‏:‏ خائفة‏.‏ وروى سالم بن معول، عن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني‏:‏ أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ويزنون، قال‏:‏ «ا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، ولكنهم هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيُصَلُّونَ»‏.‏ وروي عن أبي بكر بن خلف أنه قال‏:‏ دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقلنا‏:‏ كيف تقرئين يا أم المؤمنين ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏، قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏، فقلت يا نبي الله، هو الرجل الذي يسرق ويشرب الخمر‏؟‏ قال‏:‏

«ا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُ»‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ ‏{‏يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏، معناه يعطون ما أعطوا، ويخافون أن لا يقبل منهم؛ ومن قرأ ‏{‏يَأْتُونَ * مَا ءاتَواْ‏}‏ أي يعملون من الخيرات ما يعملون، ويخافون مع اجتهادهم أنهم مقصرون‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون‏}‏، يعني‏:‏ لأنهم إلى ربهم راجعون، ومعناه يعملون ويوقنون أنهم يبعثون بعد الموت‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات‏}‏، يعني‏:‏ يبادرون في الطاعات من الأعمال الصالحة، ‏{‏وَهُمْ لَهَا سابقون‏}‏، يعني‏:‏ هم لها عاملون، يعني‏:‏ الخيرات، وقال الزجاج‏:‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما معناه هم إليها سابقون، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏ يعني‏:‏ إليها، ويجوز هم لها سابقون أي لأجلها، أي من أجل اكتسابها، كقولك‏:‏ أنا أكرم فلاناً لك، أي من أجلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 67‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، يعني‏:‏ بقدر طاقتها‏.‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا كِتَابٌ‏}‏، يعني‏:‏ وعندنا نسخة أعمالهم التي يعملون، وهي التي تكتب الحفظة عليهم ‏{‏يَنطِقُ بالحق‏}‏، يعني‏:‏ يشهد عليهم بالصدق؛ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، أي طاقتها؛ فمن لم يستطع أن يصلي قائماً، فليصلِّ قاعداً‏.‏ ‏{‏وَعِندَنَا كتاب * يَنطِقُ بالحق‏}‏؛ وهو الذكر، يعني‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم‏.‏ ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا‏}‏، يعني‏:‏ في غفلة من الإيمان بهذا القرآن؛ ويقال‏:‏ هم في غفلة من هذا الذي وصفنا من كتابة الأعمال‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك‏}‏؛ قال مقاتل‏:‏ يقول‏:‏ لهم أعمال خبيثة دون الشرك ‏{‏هُمْ لَهَا عاملون‏}‏، أي لتلك الأعمال لا محالة التي في اللوح المحفوظ‏.‏ وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال‏:‏ ذكر الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ‏}‏‏.‏ ثم قال للكفار‏:‏ ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا‏}‏ ثم رجع إلى المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك‏}‏ الأعمال التي عددتهم لها عاملون‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب‏}‏، يعني‏:‏ أغنياءهم وجبابرتهم بالعذاب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ بالسيوف يوم بدر، وقال الكلبي‏:‏ بالجوع سبع سنين، حتى أكلوا الجيف‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا‏}‏، أي يصيحون ويتضرعون إلى الله تعالى، حين نزل بهم العذاب؛ ويقال يدعون ويستغيثون‏.‏ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ اليوم‏}‏، يعني‏:‏ لا تضجوا ولا تتضرعوا اليوم‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ من عذابنا لا تمنعون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏، أي تقرأ وتعرض عليكم، ‏{‏فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ‏}‏، أي ترجعون إلى الشرك وتميلون إليه‏.‏ ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏، أي متعظمين؛ ويقال ‏{‏تَنكِصُونَ‏}‏ أي تقيمون عليه ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالبيت، صار هذا كناية من غير أن يسبق ذكر البيت، لأن ذلك البيت كان معروفاً عندهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏ أي بمكة بالبلد‏.‏ ‏{‏سامرا‏}‏ بالليل لجلسائهم‏.‏ ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ بالقول الذي في القرآن؛ ويقال‏:‏ ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تتكلمون بالفحش وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «زُورُوها يعني‏:‏ المقابر ولا تَقُولُوا هُجْراً» يعني‏:‏ فحشاً؛ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏، يعني‏:‏ بالبيت العتيق تهجرون به، ويقولون‏:‏ نحن أهله سامراً‏.‏ والسمر حديث الليل؛ وقال أهل اللغة‏:‏ السمر في اللغة ظل القمر؛ ولهذا سمي حديث الليل سمراً، لأنهم كانوا يجتمعون في ظل القمر ويتحدثون‏.‏ قرأ نافع ‏{‏سامرا تَهْجُرُونَ‏}‏ بضم التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بنصب التاء وضم الجيم، وقال أبو عبيد‏:‏ هذه القراءة أحب إلينا، فيكون من الصدود والهجران، كقوله‏:‏ ‏{‏فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ‏}‏، يعني‏:‏ تهجرون القرآن ولا تؤمنون به‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ أراد الإفحاش في المنطق، وقد فسرها بعضهم على الشرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 74‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول‏}‏؛ وأصله يتدبروا فأدغم التاء في الدال، يعني‏:‏ أفلم يتفكروا في القرآن‏؟‏ ‏{‏أَمْ جَاءهُمْ‏}‏ من الأمان ‏{‏مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاولين‏}‏، حتى يؤمنوا؛ وقال‏:‏ معناه جاءهم الذي لم يجئ آباءهم الأولين؛ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ‏}‏؛ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الاولين أَمْ لَمْ‏}‏ من البراءة من العذاب ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ نسبة رسولهم‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ جاحدين؛ قال أبو صالح‏:‏ عرفوه ولكن حسدوه‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏، يعني‏:‏ بل يقولون به جنون‏.‏ ‏{‏بَلْ جَاءهُمْ بالحق‏}‏، يعني‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والقرآن من عند الله عز وجل، أن لا تعبدوا إلا الله‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون‏}‏، يعني‏:‏ جاحدين مكذبين، وهم الكفار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ‏}‏، والحق هو الله تعالى، يعني‏:‏ لو اتبع الله أهواءهم يعني‏:‏ مرادهم، ‏{‏لَفَسَدَتِ *** السموات والارض *** وَمَن فِيهِنَّ‏}‏، يعني‏:‏ لهلكت، لأن أهواءهم ومرادهم مختلفة؛ ويقال‏:‏ لو كانت الآلهة بأهوائهم، كما قالوا‏:‏ لفسدت السموات، كقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فسبحان الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ أنزلنا إليهم جبريل عليه السلام بعزهم وشرفهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏ ‏{‏فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏، يعني‏:‏ عن القرآن، أي تاركوه لا يؤمنون به‏.‏ ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً‏}‏، قرأ حمزة والكسائي ‏{‏***خراجاً‏}‏‏.‏ ‏{‏خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ‏}‏، يعني‏:‏ فثواب ربك خير، ويقال‏:‏ قوت ربك من الحلال خير من جعلهم وثوابهم‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏، أي أفضل الرازقين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏، يعني‏:‏ دين مستقيم، وهو الإسلام لا عوج فيه‏.‏ ‏{‏وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏، يعني‏:‏ لا يصدقون بالبعث ‏{‏عَنِ الصراط لناكبون‏}‏، أي عن الدين لعادلون ومائلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ‏}‏، يعني‏:‏ من الجوع الذي أصابهم، يعني‏:‏ من الجوع الذي أصابهم، ‏{‏لَّلَجُّواْ‏}‏؛ أي مضوا وتمادوا ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏، يعني‏:‏ في ضلالتهم يترددون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب‏}‏، يعني‏:‏ بالجوع، ‏{‏فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ ما تضعفوا وما خضعوا لربهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏؛ يقول‏:‏ ما يرغبون إلى الله في الدعاء وبالطاعة، ‏{‏حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏؛ يعني‏:‏ نفتح عليهم‏.‏ قال السدي‏:‏ هو فتح مكة‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏، قال‏:‏ أبلسوا يومئذٍ وتغيرت وجوههم وألوانهم، حين ينظرون أصنامهم تكسرت، وقال عكرمة‏:‏ ذا عذاب شديد، يعني‏:‏ فتح مكة؛ ويقال‏:‏ الجوع الشديد ‏{‏إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏، أي آيسون من كل خير ورزق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 90‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة‏}‏، فهذه الأشياء من النعم‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أنتم لا تشكرون؛ ويقال‏:‏ شكركم فيما صنع إليكم قليل‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ خلقكم في الأرض‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ‏}‏؛ أي يحيي الموتى ويميت الأحياء‏.‏ ‏{‏وَلَهُ اختلاف اليل والنهار‏}‏، أي ذهاب الليل ومجيء النهار، ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أمر الله‏؟‏ ويقال‏:‏ أفلا تعقلون توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون‏؟‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاولون‏}‏، يعني‏:‏ كذبوا مثل ما كذب الأولون‏.‏ ‏{‏قَالُواْ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ‏}‏، يعني‏:‏ هذا القول‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏، يعني‏:‏ ما هذا ‏{‏إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏، يعني‏:‏ أحاديثهم وكذبهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لكفار مكة‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الارض وَمَن فِيهَا‏}‏ من الخلق‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن أحداً يفعل ذلك غير الله تعالى، فأجيبوني‏.‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ تتعظون فتطيعونه وتوحدونه‏.‏ ‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ *** السموات **السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏، وكلهم قرؤوا الأول بغير ألف، وأما الآخر فإن كلهم قرؤوا بغير ألف غير أبي عمرو، فإنه قرأ الله؛ والباقون لله‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وجدت في مصحف الإمام كلها بغير ألف‏.‏ قال‏:‏ وحدثني عاصم الجحدري أن أول من قرأ هاتين الألفين نصر بن عاصم الليثي‏.‏ فأما من قرأ ‏{‏الله‏}‏، فهو ظاهر لأنه جواب السائل عما يسأل، ومن قرأ ‏{‏لِلَّهِ‏}‏، فله مخرج في العربية سهل، وهو ما حكى الكسائي عن العرب أنه يقال للرجل‏:‏ من رب هذه الدار‏؟‏ فيقول‏:‏ لفلان، يعني‏:‏ هي لفلان‏.‏ والمعنى في ذلك أنه إذا قيل‏:‏ من صاحب هذه الدار‏؟‏ فكأنه يقول‏:‏ لمن هذه الدار‏.‏ وإذا قال المجيب‏:‏ هي لفلان أو قال‏:‏ فلان، فهو جائز ولو كان الأول ‏{‏الله‏}‏، لكان يجوز في اللغة، ولكنه لم يقرأ والاختلاف في الآخرين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عبادة غير الله تعالى، فتوحدوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ‏}‏، يعني‏:‏ خزائن كل شيء‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ‏}‏، يعني‏:‏ يقضي ولا يقضى عليه، ويقال‏:‏ وهو يؤمن من العذاب ولا يؤمن عليه، أي ليس له أحد يؤمن الكفار من عذابه‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *** سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ من الذين تصرفون عن الإسلام وعن الحق‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ أتيناهم بالحق‏}‏، قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ القرآن؛ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ جئناهم بالتوحيد‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في قولهم إن الملائكة عليهم السلام كذا وكذا ثم قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 98‏]‏

‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏، أي من شريك‏.‏ ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ‏}‏، يعني‏:‏ لو كان معه آلهة لذهب ‏{‏كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ‏}‏، يعني‏:‏ لاستولى كل إله بما خلق وجمع لنفسه كلما خلق‏.‏ ‏{‏وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏، يعني‏:‏ ولغلب بعضهم على بعض‏.‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الكذب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏، يعني‏:‏ عالم السر والعلانية؛ ويقال‏:‏ عالم بما مضى وما هو كائن‏.‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏، يعني‏:‏ هو أجلُّ وأعلى مما يوصف له من الشريك والولد‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ بكسر الميم على معنى النعت لقوله ‏{‏سبحان الله‏}‏، وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب وما صلة؛ ويقال‏:‏ إن أريتني عذابهم‏.‏ ‏{‏رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ أخرجني منهم قبل أن تعذبهم، فلا تعذبني معهم بذنوبهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب ‏{‏لقادرون‏}‏؛ قال الكلبي‏:‏ هذا أمر قد كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهده أصحابه وقد مضى بعد الفتنة التي وقعت في الصحابة، بعد قتل عثمان رضي الله عنه وذكر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بعد نزول هذه الآية ضاحكاً ولا مبتسماً؛ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون‏}‏ يعني‏:‏ يوم بدر؛ ويقال‏:‏ يوم فتح مكة؛ ويقال‏:‏ قل‏:‏ ‏{‏رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الفتنة ‏{‏رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ مع الفئة الباغية، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وذكر عن الزبير أنه كان إذا قرأ هذه الآية، يقول قد حذرنا الله فلم نحذر‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة‏}‏، يعني‏:‏ ادفع بحلمك جهلهم؛ ويقال‏:‏ بالكلام الحسن الكلام القبيح؛ ويقال‏:‏ ادفع بقول لا إله إلا الله الشرك من أهل مكة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بما يقولون من الكذب؛ ويقال‏:‏ معناه نحن أعلم بما يقولون فلا تعجل أنت أيضاً‏.‏ ‏{‏وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين‏}‏، يعني‏:‏ أعتصم بك من نزغات الشيطان وضرباته ووساوسه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏، يعني‏:‏ قل‏:‏ رب أعوذ بك من قبل أن يحضرون الشياطين عند تلاوة القرآن؛ ويقال‏:‏ يحضرون عند الموت؛ ويقال‏:‏ عند الصلاة‏.‏ وأصله أن يحضرونني، إلا أنه يكتب ‏{‏يَحْضُرُونِ‏}‏ بحذف إحدى النونين للتخفيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 111‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏، يعني‏:‏ أمهلهم وأجلهم، حتى إذا حضر أحدهم الموت وهم الكفار، ‏{‏قَالَ رَبّ ارجعون‏}‏؛ يعني‏:‏ يقول لملك الموت وأعوانه‏:‏ يا سيدي ردني؛ ويقال‏:‏ يدعو الله تعالى، ويقول‏:‏ يا رب ارجعون؛ ويقال‏:‏ إنما قال بلفظ الجماعة، لأن العرب تخاطب جليل الشأن بلفظ الجماعة؛ ويقال‏:‏ معناه يا رب مرهم ليرجعوني إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا‏}‏، يعني‏:‏ خالصاً ‏{‏فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ في الدنيا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏، وهو رد عليهم، يعني‏:‏ أنه لا يرد إلى الدنيا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا‏}‏، يعني‏:‏ مقولها ولا تنفعه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ‏}‏، يعني‏:‏ من بعدهم القبر ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏، أي والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة؛ ويقال‏:‏ كل حاجز بين الشيئين‏.‏ فهو برزخ؛ ويقال‏:‏ هو بين النفختين؛ وقال قتادة‏:‏ البرزخ بقية الدنيا؛ وقال الحسن‏:‏ القبر بين الدنيا والآخرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور‏}‏، يعني‏:‏ النفخة الأخيرة، ‏{‏فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ لا ينفعهم ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ النسبُ، ‏{‏وَلاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ عن ذلك‏.‏ فهذه حالات لا يتساءلون في موضع، ويتساءلون في موضع آخر‏.‏ ‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏، يعني‏:‏ رجحت حسناته على سيئاته، ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏؛ يعني‏:‏ الناجون من الآخرة، ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏؛ يعني‏:‏ رجحت سيئاته على حسناته، ‏{‏فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار‏}‏؛ يعني‏:‏ تنفح‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ النفح واللفح بمعنى واحد، إلا أن اللفح أشد تأثيراً وهو الدفع، يعني‏:‏ تضرب وجوههم النار‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ في النار، ‏{‏كالحون‏}‏؛ يعني‏:‏ كلحت وعبست وجوههم، والكالح الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه، ونحو ما تُرى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان، يعني‏:‏ كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ كالرأس النضوج‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ‏}‏، يعني‏:‏ يقال لهم‏:‏ ألم تكن ‏{‏تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم‏}‏، يعني‏:‏ ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم، وما هو كائن فيه‏؟‏ ‏{‏فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بالآيات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏، يعني‏:‏ إن الكفار قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏، التي كتبت علينا والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ عن الهدى‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏***شقاوتنا‏}‏ بنصب الشين والألف، وقرأ الباقون ‏{‏عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف‏.‏ وروي عن ابن مسعود ‏{‏***شقاوتنا‏}‏ و‏{‏عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ ومعناهما قريب‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا‏}‏، يعني‏:‏ من النار، ‏{‏فَإِنْ عُدْنَا‏}‏ إلى الكفر والتكذيب، ‏{‏فَإِنَّا ظالمون *** قَالَ‏}‏، أي فحينئذٍ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ اصغروا فيها واسكتوا، أي كونوا صاغرين‏.‏

‏{‏وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏، أي ولا تكلمون بعد ذلك‏.‏

قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف قال‏:‏ حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ إن أهل النار يدعون مالكاً، فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يرد عليهم‏:‏ إنكم ماكثون‏.‏ ثم يدعون ربهم‏:‏ ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون‏.‏ فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين، ثم يجيبهم‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏، فوالله ما نبت بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏، فإنما بقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم، فمن الأجواف يعوون عواء الكلب؛ ويقال‏:‏ ‏{‏اخسئوا‏}‏ أي تباعدوا تباعد سخط‏.‏ يقال‏:‏ خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد‏.‏ ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ‏}‏ وهم المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءامَنَّا‏}‏، أي صدقنا، ‏{‏فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاتخذتموهم سِخْرِيّاً‏}‏، يعني‏:‏ هزواً، ‏{‏حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى‏}‏؛ يعني‏:‏ أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي، ‏{‏وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ قرأ عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ بكسر السين، وكذلك في سورة ص، وكانوا يقرؤون في الزخرف بالرفع، قالوا‏:‏ لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء‏.‏ وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من التسخير فهو بالضم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ونافع ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ كل ذلك بالضم؛ وقال أبو عبيد‏:‏ هكذا نقرأ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ؛ وذكر عن الخليل، وعن سيبويه أن كليهما واحد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ‏}‏، يعني‏:‏ جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا، يعني‏:‏ بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون‏}‏، يعني‏:‏ الناجون‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بكسر الألف على معنى الابتداء، والمعنى إني جزيتهم‏.‏ ثم أخبر فقال‏:‏ إنهم هم الفائزون، وقال أبو عبيد، وقرأ الباقون ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون؛ وقال أبو عبيد‏:‏ الكسر أحب إليَّ على ابتداء المدح من الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 118‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض عَدَدَ سِنِينَ‏}‏، يعني‏:‏ في القبر؛ ويقال‏:‏ في الدنيا‏.‏ ويروى عن ابن عباس في بعض الروايات أنه قال‏:‏ لا أدري في الأرض أم في القبر‏؟‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ فِي القبر عدد سنين‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين‏}‏، قال الأعمش‏:‏ يعني‏:‏ الحافظين؛ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ملك الموت وأعوانه، وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ فاسأل الحسَّاب؛ وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ الملائكة عليهم السلام وهكذا قال السدي‏.‏ ‏{‏قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ في القبر أو في الدنيا، ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا، لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلاً‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وابن كثير‏:‏ ‏{‏قال كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ على معنى الأمر، وكذلك قوله ‏{‏قُلْ إِنْ * لَّبِثْتُمْ‏}‏، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ بالألف، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلِ العادين‏}‏ بغير همز، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلِ‏}‏ بالهمزة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً‏}‏، أي لعباً وباطلاً لغير شيء، يعني‏:‏ أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم‏؟‏ ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ بعد الموت‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ بنصب التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم، وكذلك التي في القصص قالوا‏:‏ لأنها من مرجع الآخرة، وما كان من مرجع الدنيا، فقد اتفقوا في فتحه، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 50‏]‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وبالفتح نقرأ، لأنهم اتفقوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناهآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏، وقال إنهم لاَ يرجعون وَقَال ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏، كقوله‏:‏ ‏{‏الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏، فأضاف الفعل إليهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏، يقول‏:‏ ارتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئاً عبثاً، وإنما خلق لأمر كائن‏.‏ ثم وحد نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم‏}‏، يعني‏:‏ السرير الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏، يقول‏:‏ لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ‏}‏ في الآخرة، يعني‏:‏ عذابه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏، يعني‏:‏ لا يأمن الكافرون من عذابه؛ ويقال‏:‏ معناه جزاء كل كافر أنه لا يفلح الكافرون في الآخرة عند ربهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ اغفر وارحم‏}‏، يعني‏:‏ تجاوز عني‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏، يعني‏:‏ من الأبوين؛ وهذا قول الحسن، ويقال‏:‏ من غيرك؛ ويقال‏:‏ إنما حسابه عند ربه فيجازيه، كما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ اغفر وارحم‏}‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم المغفرة؛ ويقال‏:‏ أمره بأن يستغفر لنفسه، ليعلم غيره أنه محتاج إلى الاستغفار‏.‏ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنِّي أسْتَغْفِرُ الله رَبِّي وَأَتُوبُ إلَى الله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، أَوْ قالَ مِائَةَ مَرَّةٍ» والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة النور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أنزلناها‏}‏؛ قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ بنصب الهاء، وقراءة العامة بالضم‏.‏ فمن قرأ بالضم فمعناه هذه سورة أنزلناها، ومن قرأ بالنصب فمعناه أنزلنا سورة؛ ويقال‏:‏ اقرأ سورة وقد قرئت ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ بالهمزة وبغير همز؛ فمن قرأ بالهمز، جعلها من أسأرت، يعني‏:‏ أفضلت كأنها قطعت من القرآن؛ ومن لم يهمز جعلها من سور المدينة سوراً‏.‏ وقال النابغة للنعمان بن المنذر‏:‏

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَة *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

وإنما خص هذه السورة بذكر السورة لما فيها من الأحكام، فذلك كله يرجع إلى أمر واحد وهو أمر النساء‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏، يعني‏:‏ بيَّنا حلالها وحرامها، وقال القتبي‏:‏ أصل الفريضة الوجوب، وهاهنا يجوز أن يكون بمعنى بيّناها، وقد يجوز أوجبنا العمل بما فيها؛ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ أصل الفرض هو القطع، ولهذا سمي ما يقطع من حافة النهر فرضة؛ ويسمى الموضع الذي يقطع من السواك، أي ليشد فيه الخيط فرض؛ ولهذا يسمى الميراث فريضة، لأن كل واحد قطع له نصيب معلوم‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ بتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏ فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه ألزمناكم العمل بما فرض؛ ومن قرأ بالتشديد، فهو على وجهين‏:‏ أحدهما على معنى التكثير، أي إنا فرضنا فيها فروضاً، ومعنى آخر‏:‏ وبيَّنا وفصلنا فيها من الحلال والحرام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ في السورة ‏{‏بَيّنَاتٍ فاسأل‏}‏، يعني‏:‏ الحدود والفرائض والأمر والنهي؛ ويقال‏:‏ الآيات، يعني‏:‏ العلامات والعبرات؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ آيات القرآن‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ تتعظون، فلا تعطلون الأحكام والحدود‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الزانية والزانى‏}‏؛ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏الزانية‏}‏ بالنصب على معنى‏:‏ اجلدوا الزانية والزاني، وهكذا السارق والسارقة بالنصب على هذا المعنى؛ ويقال‏:‏ في الزنى بدأ بذكر المرأة، لأن الزنى في النساء أكثر؛ وفي السرقة بدأ بالرجال، لأن السرقة في الرجال أكثر‏.‏ وقراءة العامة بالرفع على معنى الابتداء، وقيل‏:‏ إنما بدأ بالمرأة، لأنها أحرص على الزنى من الرجال؛ ويقال‏:‏ لأن الفعل ينتهي إليها، ولا يكون إلا برضاها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏، يعني‏:‏ إذا كانا غير محصنين؛ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏رَأْفَةٌ‏}‏ بالهمزة والمد، وقرأ أبو عمرو بالمد بغير همز؛ وقرأ الباقون بالهمز بلا مد؛ ومعنى الكل واحد وهو الرحمة؛ وقال بعضهم‏:‏ الرأفة اسم جنس، والرحمة اسم نوع‏.‏ قال بعضهم‏:‏ الرأفة للمذنبين، والرحمة للتائبين، وهو قول سفيان الثوري؛ وقال بعضهم‏:‏ الرأفة تكون دفع المكروه، والرحمة إيصال المحبوب، يعني‏:‏ لا تحملنكم الشفقة عليهما على ترك الحد، ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله‏}‏؛ يعني‏:‏ في دين الله، أي في حكم الله إن كنتم تؤمنون بالله، ‏{‏واليوم الاخر‏}‏؛ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏

وإنما سمي اليوم الآخر، لأنه لا يكون بعده ليل ولا نهار، فيصير كله بمنزلة يوم واحد؛ وقد قيل‏:‏ إنه تجتمع الأنوار كلها، وتصير في الجنة يوماً واحداً، وجمعت الظلمات كلها في النار، وتصير كلها ليلة واحدة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين‏}‏، يعني‏:‏ ليحضر عند إقامة الحد طائفة من المؤمنين‏.‏ وفي حضور الطائفة ثلاث فوائد‏:‏ أولها أنهم يعتبرون بذلك، ويبلغ الشاهد الغائب والثانية أن الإمام إذا احتاج إلى الإعانة أعانوه، والثالثة لكي يستحي المضروب، فيكون زجراً له من العود إلى مثل ذلك الفعل؛ وقال الزهري‏:‏ الطائفة ثلاثة فصاعداً، وذكر عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ أربعة فصاعداً، لأن الشهادة على الزنى لا تكون أقل من أربعة؛ وقال بعضهم‏:‏ اثنان فصاعداً؛ وقال بعضهم‏:‏ الواحد فصاعداً؛ وهو قول أهل العراق؛ وهو استحباب وليس بواجب، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ رجلان، وعن مجاهد قال‏:‏ واحد فما فوقه طائفة؛ وروي عن ابن عباس مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً‏}‏‏.‏ روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده‏:‏ أن رجلاً يقال له مرثد بن أبي مرثد، قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أأنكح عناقاً، يعني‏:‏ امرأة بغيَّة كانت بمكة‏؟‏ قال‏:‏ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزلت هذه الآية ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً‏}‏، ‏{‏أَوْ مُشْرِكَةً‏}‏، فقال‏:‏ «يا مَرْثَدُ لا تَنْكِحْهَا» وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ ليس هو على النكاح، ولكنه الجماع؛ ويقال‏:‏ إن أصحاب الصفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتزوجوا الزواني، وكانت لهن رايات كعلامة البيطار ليُعرف أنها زانية، وقالوا‏:‏ لنا في تزويجهن مراد، فأذن لنا فإنهن أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيراً؛ والمدينة غالية السعر، وقد أصابنا الجهد‏.‏ فإذا جاءنا الله تعالى بالخير، طلقناهن وتزوجنا المسلمات، فنزلت الآية ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً‏}‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير، والضحاك‏:‏ ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً‏}‏ أي لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله في الزنى، والزانية لا تزني إلا بزان مثلها في الزنى‏.‏ ‏{‏والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين‏}‏، يعني‏:‏ الزنى؛ وقال الحسن البصري‏:‏ الزاني المجلود بالزنى، لا ينكح إلا زانية مجلودة مثله في الزنى‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب‏:‏ أن مجلوداً تزوج امرأة غير مجلودة، ففرق بينهما؛ ويقال‏:‏ أراد به النكاح، لا ينكح، يعني‏:‏ لا يتزوج‏.‏ وكان التزويج حراماً بهذه الآية، ثم نسخ بما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال‏:‏ طَلِّقْهَا‏.‏ قال‏:‏ إني أحبها، فقال‏:‏ أَمْسِكْهَا‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً‏}‏‏.‏ كانوا يرون الآية التي بعدها نسختها ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏، يعني‏:‏ يقذفون العفائف من النساء الحرائر المسلمات، ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ على صدق مقالتهم، ‏{‏فاجلدوهم‏}‏؛ يقول‏:‏ للحكام؛ ويقال‏:‏ هذا الخطاب لجميع المسلمين‏.‏ ثم إن المسلمين فوضوا الأمر إلى الإمام وإلى القاضي، ليقيم عليهم الحد‏.‏ ‏{‏ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏، يعني‏:‏ ثمانين سوطاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً‏}‏، أي لا تقبلوا لهم شهادة بعد إقامة الحد عليهم‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏، يعني‏:‏ العاصين‏.‏

قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك‏}‏، يعني‏:‏ القذف‏.‏ ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏، يعني‏:‏ العمل بعد التوبة، ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لذنوبهم بعد التوبة، ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم بعد التوبة؛ وقال شريح‏:‏ يقبل توبته فيما بينه وبين الله تعالى‏.‏ فأما شهادته، فلا تقبل أبداً؛ وقال إبراهيم النخعي رحمه الله‏:‏ إذا تاب ذهب عنه الفسق، ولا تقبل شهادته أبداً‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ تاب الله عليهم من الفسق وأما الشهادة، فلا تقبل أبداً؛ وهكذا عن سعيد بن جبير ومجاهد‏.‏ وروي عن جماعة من التابعين أن شهادته تقبل إذا تاب، مثل عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم؛ وهو قول أهل المدينة، والأول قول أهل العراق وبه نأخذ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ثم قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم‏}‏، يعني‏:‏ يقذفون أزواجهم بالزنى‏.‏ قال أبو الليث‏:‏ حدّثنا أبو جعفر قال‏:‏ حدّثنا أبو الحسن علي بن أحمد قال‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل قال‏:‏ حدّثنا يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما نزل ‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏ الآية، قال مسعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار‏:‏ أهكذا أنزلت يا رسول الله‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَاِر، ألا تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ‏؟‏»‏.‏ فقال سعد‏:‏ والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه، حتى آتي بأربعة شهداء‏.‏ فوالله إني لا آتي بأربعة شهداء، حتى يقضي حاجته‏.‏ قال‏:‏ فما لبثوا إلا يسيراً، حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم‏.‏ فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند امرأته رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني‏.‏ فكره النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه‏.‏

واجتمعت الأنصار، فقالوا‏:‏ قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة‏.‏ الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال‏:‏ والله إني لأرجو أن يجعل الله لي مخرجاً‏.‏ فوالله إن النبي صلى الله عليه وسلم ليريد أن يأمر بضربه، إذ نزل عليه الوحي، فعرفوا بذلك في تربد وجهه، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزل ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «أَبْشِرْ يا هِلالُ فَقَدْ جَعَلَ الله لَكَ مَخْرَجاً»‏.‏ فقال هلال‏:‏ قد كنت أرجو ذلك من ربي‏.‏ فأرسلوا إليها، فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا‏.‏ فقال هلال‏:‏ والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما‏.‏ فقالت‏:‏ كذب علي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاعِنُوا بَيْنَهُما»‏.‏ فقيل لهلال‏:‏ اشهد‏.‏ فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين؛ فلما كانت الخامسة، قيل‏:‏ يا هلال، اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب‏.‏ قال‏:‏ والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين‏.‏

ثم قيل لها‏:‏ اشهدي‏.‏ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة، قيل لها‏:‏ اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وان هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فمكثت ساعة ثم قالت‏:‏ والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، وقال‏:‏ إن جاءت به أصيهب أريسج أثيبج خمش الساقين، فهو لهلال‏.‏ وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به‏.‏ فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَوْلاَ الأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» قال عكرمة‏:‏ فكان بعد ذلك أميراً على مصر ولا يدعى لأب‏.‏

وروى ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي‏:‏ أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه أو كيف يفعل‏؟‏ قال‏:‏ «قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآناً فَاذْهَبْ فَأْت بِهَا» فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فرغا، قال‏:‏ كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً‏.‏ فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ تلك سنة المتلاعنين؛ وفي رواية أخرى‏:‏ أنه فرق بينهما؛ وقال الزهري‏:‏ صار ذلك سنة في المتلاعنين، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الزوج خاصة‏.‏

‏{‏فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏، أي يحلف الزوج أربع مرات، فيقول في كل مرة‏:‏ أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أني صادق فيما رميتها به من الزنى، ‏{‏والخامسة‏}‏؛ يعني‏:‏ ويقول في المرة الْخَامِسَةِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين‏}‏ فيما رماها به من الزنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب‏}‏، يعني‏:‏ يدفع الحاكم الحد عن المرأة ‏{‏أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين‏}‏، يعني‏:‏ بعد ما تحلف المرأة أربع مرات، فتقول في كل مرة‏:‏ أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن الزوج من الكاذبين في قوله، ‏{‏والخامسة‏}‏؛ يعني‏:‏ وتقول المرأة في الخامسة‏:‏ ‏{‏أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ‏}‏ الزوج ‏{‏مِنَ الصادقين‏}‏ في مقالته‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏أَرْبَعُ شهادات‏}‏ بضم العين، وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ فمن قرأ بالضم، يكون على معنى خبر الابتداء، فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع شهادات‏.‏ ومن قرأ بالنصب، فالمعنى فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وبهذا نقرأ، ومعناه فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات، فيكون الجواب في قوله‏:‏ إنه لمن الصادقين‏.‏

وقرأ عاصم‏:‏ ‏{‏أَن لَّعْنَةُ الله‏}‏ بتخفيف أنْ والجزم، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا‏}‏ بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع‏.‏ فإذا فرغا من اللعان، فرق القاضي بينهما وقال بعضهم‏:‏ بعد اللعان؛ وهو قول الشافعي رحمه الله أو في قول علمائنا رحمهم الله لا تقع الفرقة، ما لم يفرق بينهما‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏؛ وجوابه مضمر، ومعناه ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لبين لكم الصادق من الكاذب؛ ويقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ تواب لمن تاب ورجع، حكيم بينهما بالملاعنة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ قالوا بالكذب؛ وقال الأخفش‏:‏ الإفك أسوأ الكذب، وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه‏.‏ قالت‏:‏ فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق‏.‏ قالت‏:‏ فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه في مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة، أذن ليلة بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش‏.‏ فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي‏.‏ فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه‏.‏ قالت‏:‏ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلهن ولم يفشهن اللحم‏.‏ إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج، حين رحلوه ورفعوه‏.‏

وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا‏.‏ ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب‏.‏ قالت‏:‏ فجلست مكاني، فظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي، إذ غلبني النوم، فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر؛ إذا ارتحل الناس، يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم، فيحمله إلى المنزل الآخر، فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم‏.‏ وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء، فأصبح صفوان عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني؛ وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي‏.‏

فوالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق بي يقود بي الراحلة‏.‏

قالت‏:‏ وكان عبد الله بن أبي، إذا نزل في العسكر، نزل في أقصى العسكر، فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون‏.‏ قالت‏:‏ وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة، وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت، ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن عائشة قد فقدت‏.‏ فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل، فتكلم عبد الله بن أبيّ بما تكلم، وحسان بن ثابت وسائرهم، وأفشوه في العسكر‏.‏ وخاض أهل العسكر فيه، فجعل يرويه بعضهم عن بعض، ويحدث بعضهم بعضاً‏.‏

قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي‏.‏ إنما يدخل ويسلم ثم يقول‏:‏ «كَيْفَ تِيكُمْ» فذلك يُريبُني‏؟‏ ولا أشعر بالسر‏.‏ فلما رأيت ذلك، قلت‏:‏ يا رسول الله، لو أذنت لي فانقلبت إلى أبويّ يمرضاني‏.‏ قال‏:‏ «لا بَأْس عَلَيْكِ» وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه‏.‏ قالت‏:‏ فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان، حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة‏.‏

قالت‏:‏ وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم، إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة‏.‏ قالت‏:‏ فخرجت في بعض الليل، ومعي أم مسطح، حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح، فقالت‏:‏ تعس مسطح‏.‏ فقلت لها‏:‏ بئس ما صنعت، تسبين رجلاً وقد شهد بدراً‏.‏ فقالت‏:‏ أولم تسمعي ما قال‏؟‏ قلت‏:‏ وماذا قال‏؟‏ قالت‏:‏ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، وأخذتني الحمى مكاني، فرجعت أبكي‏.‏

ثم قلت لأمي‏:‏ يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي منه شيئاً‏.‏ فقالت‏:‏ هوني عليك، فوالله لقلَّ ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن عليها‏.‏ قالت‏:‏ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم؛ ثم أصبحت أبكي‏.‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حيت استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله‏.‏ فأما علي بن أبي طالب، فقال‏:‏ لم يضيق الله عليك والنساء كثير فاستبدل‏.‏ وأما أسامة بن زيد، فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود‏.‏

فقال يا رسول الله، ما علمت منها إلا خيراً، فلا تعجل وانظر واسأل أهلك‏.‏ قال‏:‏ فسأل حفصة بنت عمر عنها، فقالت‏:‏ يا رسول الله، ما رأيت عليها سوءاً قط‏.‏ وسأل زينب بنت جحش، فقالت مثل ذلك، وسأل بريرة فقال‏:‏ «أيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ‏؟‏» قالت له بريرة‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها، غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله‏.‏

قالت‏:‏ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل علي، وعندي أبواي، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ «يا عَائِشَةُ، لَقَدْ بَلَغَكِ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإنْ كَانَ مَا يَكُونُ مِنْكِ زَلَّةَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، فَتُوبي إلى الله تَعَالَى؛ فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ‏.‏ فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ الله عَلَيْهِ»‏.‏ فانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني، فلم يفعلا، فقلت‏:‏ يا أبت أجبه، فقال‏:‏ ماذا أقول‏؟‏ فقلت‏:‏ يا أماه أجيبيه‏.‏ فقالت‏:‏ ماذا أقول‏؟‏ ثم استعبرت فبكيت، فقلت‏:‏ لا والله لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس، لقلت وأنا منه بريئة، ولا أقول فيما لم يكن حقاً‏.‏ ولئن أنكرت، فلا تصدقني‏.‏

قالت‏:‏ ثم أنسيت اسم يعقوب، فلم أذكره، فقلت‏:‏ ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف ‏{‏وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏ قالت‏:‏ فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه‏.‏ قالت‏:‏ أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله عز وجل يبرئني، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى، ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بقرآن يقرأ به في المساجد، ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه شيئاً ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال‏:‏ «يا عَائِشَةُ أبْشِرِي، أَمَا والله فَقَدْ بَرَّأَكِ الله تَعَالَى»‏.‏ فقالت لي أمي‏:‏ قومي إليه‏.‏ فقلت‏:‏ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي‏.‏

وفي رواية قالت‏:‏ أحمد الله تعالى وأذمكم‏.‏ قالت‏:‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه ثم قال‏:‏ «يا أيُّها النَّاسُ مَنْ يُعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ، قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي برَجُلٍ ما رَأَيْتُ عَلَيْهِ سُوءاً قَطُّ، وَلا دَخَلَ على أهْلِي إلاَّ وأنَا مَعَهُ»‏.‏

فقام سعد بن معاذ، فقال‏:‏ أخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو‏؟‏ فإن يكن من الأوس نقتله، وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأياً، أمرتنا ففعلنا أمرك‏.‏ فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن حملته الحمية، فقال‏:‏ كلا ولكنها عداوتك للخزرج‏.‏ قال‏:‏ فاسْتَبَّا، فقام أسيد بن حضير الأوسي، وقال‏:‏ يا سعد بن عبادة، أتقول هذا‏.‏ كلا والله ولكنك منافق تحب المنافقين، فاستب حي هذا وحي هذا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللغط، نزل وتركهم، وقد تلا عليهم ما أنزل الله عليه في أمر عائشة رضي الله عنها

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين *** جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ‏}‏ يعني جماعة منكم، وهو ما قال عبد الله بن أبيّ وأصحابه‏:‏ ما برئت عائشة من صفوان، وما برئ عنها صفوان، والعصبة عشرة، فما فوقها، كما قال الكلبي‏.‏

‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ عائشة ومن كان ينسبها والنبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، ‏{‏بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏؛ لأنه لو لم يكن قولهم لم يظهر فضل عائشة رضي الله عنها وإنما ظهر فضل عائشة بما صبرت على المحنة، فنزل بسببها سبع عشرة آية من القرآن من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ووجه آخر، بل هو خير لكم، لأنه يؤخذ من حسناته ويوضع في ميزانه، يعني‏:‏ عائشة وصفوان، وهذا خير له‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم‏}‏، يعني‏:‏ لكل واحد منهم العقوبة بمقدار ما شرع في ذلك الأمر، لأن بعضهم قد تكلم بذلك، وبعضهم ضحك، وبعضهم سكت‏.‏ فكل واحد منهم ما اكتسب من الإِثم بقدر ذلك‏.‏

‏{‏والذى تولى كِبْرَهُ‏}‏، يعني‏:‏ الذي تكلم بالقذف ‏{‏مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ الحد في الدنيا‏.‏ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، وكان حميد يقرأ ‏{‏والذى تولى كِبْرَهُ‏}‏ بضم الكاف، يعني‏:‏ عظمه‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والقراءة عندنا بالكسر، وإنما الكبر في النسب وفي الولاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏، يعني‏:‏ هلا إذ سمعتم قذف عائشة وصفوان‏.‏ ‏{‏ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً‏}‏، يعني‏:‏ هلا ظننتم به كظنكم بأنفسكم‏؟‏ ويقال‏:‏ ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم، كظن المؤمنين والمؤمنات بأمثالهم وبأهل دينهم خيراً؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات‏؟‏ ‏{‏وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ‏}‏، يعني‏:‏ هلا قلتم حين بلغكم هذا الكذب، هذا كذب بيّن، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك‏؟‏ ‏{‏لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏، يعني‏:‏ هلا جاؤوا بها‏.‏ ‏{‏فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الكاذبون‏}‏ في قولهم‏:‏ اللفظ لفظ الماضي، والمراد به المستقبل، يعني‏:‏ اطلبوا منهم أربعة شهداء، فإن لم يأتوا بها؛ فأقم عليهم الحد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏، يعني‏:‏ منته ونعمته عليكم‏.‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة لَمَسَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ أصابكم ‏{‏فِيمَا *** أَفَضْتُمْ فِيهِ‏}‏، يعني‏:‏ فيما قلتم من القذف ‏{‏عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ في الدنيا والآخرة على وجه التقديم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ‏}‏، أي يرويه بعضكم من بعض، ويتلقاه بعضكم من بعض‏.‏ وقرئ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ بكسر اللام وضم القاف والتخفيف، أي تكذبون بألسنتكم؛ ويقال‏:‏ معناه تسرعون إلى الكذب‏.‏ يقال‏:‏ ولق يلق، إذا أسرع إلى الكذب‏.‏ وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ بكسر اللام، وقال ابن أبي مليكة هي أعلم، لأن الآية نزلت فيها‏.‏ وروي عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏إِذْ‏}‏، وقال أبو عبيد‏:‏ لولا قراءة أبي وكراهة الخلاف على الناس، ما كان أحد أولى أن يتبع فيها من عائشة، كما احتج ابن أبي مليكة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ من الفرية، ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً‏}‏؛ أي تحسبون عقوبته هينة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ‏}‏ في الوزر والعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏، يعني‏:‏ وهلا إذ سمعتم القذف‏.‏ ‏{‏قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا‏}‏، يعني‏:‏ ما ينبغي لنا ولا يجوز لنا ‏{‏أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سبحانك هذا بهتان عَظِيمٌ‏}‏‏.‏ وفي هذا بيان فضل عائشة رضي الله عنها حيث نزهها الله باللفظ الذي نزه به نفسه، وهو لفظ سبحان الله؛ ويقال‏:‏ سبحان الله أن تكون امرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية، ما كانت امرأة نبي زانية قط‏.‏ ثم وعظ الذين يخوضون في أمر عائشة، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ الله‏}‏، يعني‏:‏ ينهاكم الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً‏}‏، يعني‏:‏ القذف ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏، يعني‏:‏ مصدقين بالله وبرسوله عليه السلام وباليوم الآخر‏.‏

‏{‏وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الايات‏}‏، يعني‏:‏ الأمر والنهي ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏؛ ونزل في عبد الله بن أبيّ وأصحابه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة‏}‏، يعني‏:‏ يظهر الزنى ويفشو ويقال‏:‏ تحبوا ما شاع لعائشة رضي الله عنها من الثناء السيئ ‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ‏}‏، يعني‏:‏ عائشة وصفوان‏.‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا‏}‏ الحد ‏{‏والاخرة‏}‏ النار إن لم يتوبوا‏.‏ ‏{‏والله‏}‏ تعالى ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ أنهما لم يزنيا ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك منهما‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏، وجوابه مضمر، يعني‏:‏ لولا منُّ الله عليكم ونعمته لعاقبكم فيما قلتم في أمر عائشة وصفوان‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ‏}‏، حيث لم يعجل بالعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏، يعني‏:‏ لا تتبعوا تزيين الشيطان ووساوسه بقذف المؤمنين والمؤمنات، ‏{‏وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان‏}‏‏.‏ وفي الآية مضمر، ومعناه ومن يتبع خطوات الشيطان، وقع في الفحشاء والمنكر‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏، يعني‏:‏ به الشيطان ‏{‏يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ يعني‏:‏ المعاصي ‏{‏والمنكر‏}‏ ما لا يعرف في شريعة ولا سنة‏.‏ وروي عن أبي مجلز قال‏:‏ ‏{‏خطوات الشيطان‏}‏، النذور في معصية الله تعالى فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم‏}‏، يعني‏:‏ ما ظهر وما صلح منكم ‏{‏مّنْ أَحَدٍ أَبَداً‏}‏، يعني‏:‏ أحداً ومن صلة‏.‏ ‏{‏ولكن الله يُزَكّى‏}‏، يعني‏:‏ يوفق للتوحيد ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏، ويقال‏:‏ ما زكى، أي ما وحد ولكن الله يزكي أي يطهر‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لِمَقالتهم، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ‏}‏، يعني‏:‏ لا يحلف وهو يفتعل من الألية وهي اليمين‏.‏ قرأ أبو جعفر المدني، وزيد بن أسلم ‏{‏وَلاَ‏}‏ على معنى يتفعل، ويقال‏:‏ معناه ولا يدع أن ينفق ويتصدق، وهو يتفعل من ألوت أني أصنع كذا؛ ويقال‏:‏ ما ألوت جهدي، أي ما تركت طاقتي؛ وذلك أن أبا بكر كان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره، فلما تكلم بما تكلم به، حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق عليه، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏عَلِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ‏}‏‏.‏

‏{‏أُوْلُو *** الفضل مِنكُمْ‏}‏ في طاعة الله، لأنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏مِنكُمْ والسعة‏}‏ يعني السعة في المال‏.‏ وهذا من مناقب أبي بكر رضي الله عنه حيث سماه الله ‏{‏أُوْلُو * الفضل‏}‏ في الإسلام؛ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ‏}‏ يعني‏:‏ ولا يحلف ‏{‏أُوْلُو *** الفضل مِنكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ أولو الغنى والسعة في المال، والأول أشبه لكي لا يكون حمل الكلام على التكرار‏.‏ ‏{‏أَن يُؤْتُواْ‏}‏، أولي القربى، يعني‏:‏ لا يحلف أن لا يعطي ولا ينفق على ‏{‏أُوْلِى القربى‏}‏، يعني‏:‏ على ذوي القربى وهو مسطح ‏{‏والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله‏}‏، وكان مسطح من فقراء المهاجرين ومن أقرباء أبي بكر‏.‏

‏{‏وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ‏}‏، يقول‏:‏ ليتركوا وليتجاوزوا‏.‏ ‏{‏أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏، فقال أبو بكر‏:‏ أنا أحب أن يغفر الله لي، فقد تجاوزت عن قرابتي، ويقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر‏:‏ «أَلاَ تُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكَ» قال‏:‏ نعم‏.‏ فقرأ عليه هذه الآية، وأمره بأن ينفق على مسطح‏.‏ وفي الآية دليل على أن من حلف على أمر، فرأى الحنث أفضل منه، فله أن يحنث ويكفر عن يمينه، ويكون له ثلاثة أجور‏:‏ أحدها ائتماره بأمر الله تعالى، والثاني أجر بره وذلك صلته في قرابته، والثالث أجر التكفير‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ غفور لذنوبكم رحيم بالمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏، يعني‏:‏ العفائف ‏{‏الغافلات‏}‏، يعني‏:‏ عن الزنى والفواحش‏.‏ ‏{‏المؤمنات‏}‏، أي المصدقات بالألسن والقلوب، ‏{‏لُعِنُواْ فِى الدنيا والاخرة‏}‏؛ وأصل اللعنة، هي الطرد والبعد؛ ويقال للشيطان‏:‏ اللعين، لبعده عن الرحمة‏.‏ وروي في الخبر أن يوم القيامة تكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأولين، إلا الذين تجري على لسانهم اللعنة‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يلعن بعيره، فقال‏:‏ «أَتَلْعَنُهَا وَتَرْكَبُهَا‏؟‏» فنزل عنها، ولم يركبها أحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏، أي شديد يوم القيامة‏.‏ وذكر أن حسان بن ثابت ذهب بصره في آخر عمره، فدخل يوماً على عائشة، فجلس عندها ساعة، ثم خرج، فقيل لها‏:‏ إن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ أوليس هذا أعظم‏؟‏ يعني‏:‏ ذهاب بصره؛ ويقال‏:‏ عذاب عظيم إن لم يتوبوا‏.‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏، أي بِمَا تكلموا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق‏}‏، يعني‏:‏ يوفيهم جزاء أعمالهم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏يَشْهَدُ‏}‏ بالياء بلفظ المذكر، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث، لأن الفعل مقدم، فيجوز أن يذكر ويؤنث؛ وقرأ مجاهد ‏{‏الحق‏}‏ بضم القاف، فيكون الحق نعت لله، وتكون قراءة أبي بن كعب شاهدة له، كأنه يقول‏:‏ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم؛ وقراءة العامة الحق بالنصب‏.‏ وإنما يكون نصباً، لنزع الخافض، أي يوفيهم الله ثواب دينهم بالحق، أي بالعدل‏.‏ وجه أخر أن يكون الحق نعتاً للدين، ويكون كقوله‏:‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ ثم يدخل عليه الألف واللام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين‏}‏، أي عبادة الله هي الحق المبين؛ ويقال‏:‏ ما يعلمون أن ما قال الله هو الحق‏.‏ ‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ‏}‏؛ قال الكلبي‏:‏ الخبياث من الكلام للخبيثين من الرجال، يعني‏:‏ عبد الله بن أبي، ‏{‏والخبيثون‏}‏ من الرجال ‏{‏للخبيثات‏}‏ من الكلام على معنى التكرار والتأكيد؛ ويقال‏:‏ الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، مثل عبد الله بن أبي تكون له زوجة خبيثة زانية، وامرأة النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون زانية خبيثة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يتكلم بكلام الخبيث إلا الخبيث، ولا يليق إلا بالخبيث؛ ويقال‏:‏ الكلمات الخبيثات إنما تلتصق بالخبيثين من الرجال‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والطيبات لِلطَّيّبِينَ‏}‏، يعني‏:‏ الطيبات من الكلام للطيبين من الرجال، ويقال الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ‏{‏والطيبون للطيبات‏}‏ على معنى التكرار والتأكيد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏، يعني‏:‏ عائشة رضي الله عنها وصفوان مما يقولون من الفرية، ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ رزقاً في الجنة كثيراً؛ ويقال‏:‏ ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ حسن‏.‏ وذكر ابن عباس أنه دخل على عائشة رضي الله عنها في مرضها الذي ماتت فيه، فذكرت ما كان منها من الخروج في يوم الجمل وغيره، فقال لها ابن عباس‏:‏ أبشري، فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏، والله تعالى ينجز وعده‏.‏ فسري بذلك عنها‏.‏